كتب- محمود عرفات
في زوايا مهجورة من القاهرة، حيث يغفو الأحياء على أصوات الصمت المخيف، يعيش آلافٌ من سكان المقابر قصةً غريبة تشبه عالماً موازياً، عالمٌ بين الحياة والموت. هنا لا تشرق الشمس على بيوت تقاوم الفقر، بل على قبورٍ تحوي أحلاماً ميتة، وأرواحاً تبحث عن ملجأ وسط ظلال النسيان، في هذه الأرض القاحلة، تتحول المقابر إلى مأوى، وصراع يومي بين البقاء والاختفاء، هذه هي قصتهم.. حكاية الألم والصبر، حيث لا مكان للأمل إلا في قلب الظلام.
العيش بين القبور.. واقع لا يُصدق
في مناطق مثل البساتين، منشأة ناصر، والإمام الشافعي، يعيش الآلاف داخل الأضرحة، غرف دفن تحولت إلى مأوى لعائلات كاملة، بلا ماء نظيف، بلا صرف صحي، وبلا أمن. يُطهو الطعام جوار شواهد القبور، وتُعلَّق ملابس الأطفال على الجدران المتهالكة بجانب صور الموتى.
وخلال الحديث عن معاناة سكان هذه المناطق، يقول الحاج فتحي أحد سكان مقابر البساتين : “هنا بنعيش بالعافية.. مفيش مكان تاني، والقبر أرحم من الشارع”. بينما تضيف أم نجلاء، أم لخمسة أطفال: “كل اللي بطلبه شقة صغيرة.. نخرج من وسط الموت ده”.
أبعاد نفسية واجتماعية
من جانبها قالت الدكتورة منى عبد الرحمن، أستاذ علم النفس الاجتماعي إن نشأة الأطفال وسط الموت تخلق خللًا في تصوراتهم عن الحياة والأمان، وتؤثر سلبًا على سلوكهم ومستقبلهم، مشيرة إلى أن العيش في المقابر لا يخلق فقط أزمة فقر، بل أزمة هوية واغتراب داخلي”.
وأضافت في تصريح خاص لجريدة: “الأطفال في هذه البيئات معرضون لمخاطر نفسية كبيرة مثل القلق والاكتئاب، ويواجهون تحديات في الاندماج بالمجتمع”.
أزمة في التخطيط الحضري
من جهته أكد الدكتور هاني فؤاد، الخبير في التنمية الحضرية، أن هذه الظاهرة ليست مجرد دليل على الفقر، بل تعكس إخفاقًا كبيرًا في التخطيط العمراني والسياسات السكنية التي لم تستوعب تزايد السكان، حينما يسكن الناس مع الأموات، فالمشكلة ليست في الأفراد، بل في منظومة السياسات”.
وأضاف في تصريح خاص لجريدة “اليوم” أنه لا بد من وجود تدخلات شاملة تشمل توفير وحدات سكنية بأسعار مناسبة، وتحسين البنية التحتية، إلى جانب برامج تأهيل اجتماعي ونفسي للسكان”.
الخلفية التاريخية لسكان المقابر
هذه الظاهرة ليست جديدة تعود جذورها إلى سبعينيات القرن الماضي، مع تسارع الهجرة الداخلية إلى المدن الكبرى، خاصة القاهرة، دون توسع عمراني موازٍ أو خطط إسكان فعالة. ومع ارتفاع أسعار الإيجارات، لم تجد بعض الأسر مفرًا سوى السكن في المقابر.
أصبحت هذه المناطق بمثابة مجتمعات مستقلة، فيها مدارس غير رسمية، وأسواق صغيرة، وحكايات مؤلمة تتكرر
مبادرات مجتمعية تحاول الإنقاذ
رغم فداحة المأساة، لم تغب المحاولات الفردية والمؤسسية. بعض الجمعيات الخيرية تنظم مساعدات موسمية، بينما يحاول متطوعون من الشباب إدخال التعليم للأطفال أو تنظيم أنشطة ترفيهية، إلا أن هذه الجهود تظل غير كافية أمام واقع يومي قاسٍ يحتاج تدخلًا رسميًا جادًا وشاملًا.
خاتمة
يبقى واقع سكان المقابر مرآة لجزء من مجتمعنا يحتاج إلى المزيد من الاهتمام والرعاية، بعيدًا عن الأحكام المسبقة، مع وجود المبادرات المجتمعية والدعم المستمر من الجهات المختلفة، يمكن تحسين حياة هؤلاء الناس وتوفير فرص أفضل لهم، لنسمع يوماً قصص نجاح وحياة كريمة لكل مواطن. فالمسؤولية ليست على أحد بمفرده، بل تتطلب تضافر الجهود والعمل المشترك لبناء مستقبل أفضل للجميع.