لماذا سُمي يوم عرفة بهذا الاسم؟.. رحلة روحية في أعظم أيام الله
تقرير: مصطفى على
في أجواء إيمانية مشحونة بالعبر والدلالات، يتجدّد السؤال السنوي الذي يتردد على ألسنة الملايين من المسلمين: لماذا سُمِّي يوم عرفة بهذا الاسم؟ ما السِّر وراء قدسيته المتجددة؟ ولماذا تتكرر إشارات العلماء والدعاة إلى أن هذا اليوم ليس مجرد يوم صيام أو دعاء فحسب، بل مناسبة استثنائية للتجدّد الروحي والتعرّف على النفس والخالق؟
في محاولة لتفكيك أسرار هذا اليوم العظيم، يُقدم الدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، رؤية روحانية غنية بالمعاني والدلالات، تعيد تأطير الفهم التقليدي ليوم عرفة، وتمنحنا مدخلاً جديدًا لفهم خصوصيته كمحطة إيمانية مركزية في حياة المسلم.
التعرّف والتعريف: لحظة إعادة بناء الذات
يرى الدكتور الورداني أن يوم عرفة لا يُختزل في أداء الصيام أو الدعاء، بل هو ما يسميه “يوم التعرّف” ففي هذا اليوم، يُمنَح الإنسان فرصة نادرة لـ”اكتشاف ذاته”، بعيدًا عن صخب الهوى وتضخم الأنا هو اليوم الذي تُكسر فيه الأقنعة، وتتجرد فيه النفس من الزيف والتكلف، لتقف وجهاً لوجه أمام حقيقتها.
ويشرح الورداني هذا المفهوم قائلاً: “يوم عرفة هو لحظة تعرّف الإنسان على نفسه من جديد، مجردًا من الألقاب، من الأهواء، من التعلّقات، ليبدأ تعريف ذاته من منطلق العبودية لله” وفي هذا السياق، يُعرَف الإنسان بأنه عبد فقير محتاج، ممتنّ لنِعَم لا تُعدّ ولا تُحصى، مُحمَّل بأحلامه وأوجاعه، لكن أيضًا مفعم بثقة مطلقة في قدرة ربه على الإصلاح والهداية.
من كنوز العرش: عرفة وبهاء النبوة
بحسب الورداني، فإن المكانة الخاصة التي يحظى بها يوم عرفة لا تعود فقط إلى ما فيه من شعائر أو أدعية، بل تتصل بجوهر أعمق، وهو كونه “هبة إلهية أخرجها الله من تحت عرش الرحمن”، وكرّمه بحضور سيد الخلق ﷺ، ما جعله يومًا يتجلى فيه البهاء النبوي.
وفي كلماته التي ألقاها خلال برنامج “مع الناس” على قناة “الناس”، يقول: “علينا أن نتعامل مع هذا اليوم بشكل مختلف، لأنه يوم أودعه الله من أسراره، ومنحه إشراقات غير عادية لا تتكرر في غيره من الأيام” وتعبير “من كنوز ما تحت العرش” يفتح أبواب التأمل أمام أبعاد غير مرئية لهذا اليوم، إذ يغدو عرفة بمثابة ميدان مكشوف بين العبد وربه، بلا وسائط، بلا حواجز، فقط صدق القلب ووضوح النية.
عرفات.. حيث تعارف آدم وحواء وتعرّف البشر على ربهم
أصل التسمية كما يشرح الدكتور الورداني، لا يخلو من بعد رمزي عميق فثمة روايات تشير إلى أن آدم تعرف على حواء في هذا المكان بعد أن افترقا في الأرض، فكان اللقاء في عرفة هو “لحظة الوصل الأولى” في تاريخ البشرية بعد الانفصال لكن ما يراه الورداني أكثر أهمية من هذا التفسير التاريخي، هو أن الاسم مشتق من الفعل “عَرَفَ”، في دلالة على أن هذا اليوم هو يوم المعرفة، ويوم التعرّف على الله.
وهنا يُستدعى حديث النبي ﷺ: “أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”، وهو دعاء يتكرر على ألسنة الحجيج في ذلك اليوم، لما يحمله من اعتراف بوحدانية الله، وتمجيد لقدره، وتسليم للأمر كله إليه.
خماسية الروح.. سلم العروج من النفس إلى الله
يكشف الدكتور الورداني عن بناء روحاني متكامل يميز يوم عرفة، أسماه “الخماسية الروحانية”، وهي رحلة داخلية تبدأ بالتعرّف وتنتهي بالمعروف:
1. التعرّف: أن ترى نفسك بعين الحق، مجردة من كل ما علق بها من زخارف وهمية.
2. التعريف: أن تعيد صياغة ذاتك في قالب العبودية، متخلّصًا من الادّعاء.
3. الاعتراف: أن تشهد بنِعَم الله عليك، فلا تُنكر الجميل ولا تجحد الفضل.
4. العرفان: أن تعيش حالة الامتنان، أن تقول “الحمد لله” وأنت موقن.
5. المعروف: أن تضع كل ذلك بين يدي الله، في سجدة أو دعوة أو دمعة، تثق بأن الله يسمعها ويستجيب.
هذه الخماسية تمثل، بحسب الورداني، جوهر يوم عرفة. إنها ليست طقوسًا تُؤدى، بل حالات وعي تُكتسب، وعقود قلبية تُجدَّد، تجعل من الإنسان “نسخة جديدة” من نفسه، أكثر قربًا، أكثر صفاءً، وأكثر حبًا لله.
من الغربة إلى الأنوار: عرفة لحظة الميلاد الجديد
ولعل من أعمق ما قاله الدكتور الورداني في حديثه، تلك الإشارة إلى أن يوم عرفة هو لحظة الولادة من جديد يقول: “في يوم عرفة تُولد من جديد.. من كان يشعر بالغربة، بالوحدة، بالخذلان؛ فإن يوم عرفة هو لحظة العود إلى الله، لحظة الامتلاء بالأنوار، لحظة أن تُعرَف في السماء بأنك عبدٌ عرَفَ ربَّه فعاش بنعمه، وشهد ملكه، وحمده، وسلّمه أمره”.
بهذا المعنى، يصبح يوم عرفة ليس فقط يومًا للحجيج في صعيد عرفات، بل محطة كونية يمكن أن يعيشها كل إنسان، أينما كان، حين يقرر أن يترك خلفه أسره للأوهام، ويقبل على الله بكليته.
كيف تفوز بيوم عرفة؟
يقدّم الدكتور الورداني وصفة روحانية للفوز بهذا اليوم العظيم:
“من أراد أن يفوز بيوم عرفة، فعليه أن يتخلّى عن كل أسرٍ لغير الله، وأن يتحرر من الوحدة، والقلق، والخوف، لأنك عبد لرب قدير لا يتركك أبدًا”.
هي دعوة للخروج من قيد النفس إلى فضاء الروح، ومن أسر المادة إلى بهاء المعنى، ومن ثقل الحياة إلى خفة التسليم.
عرفة.. اسم على مسمى
حين نقول “يوم عرفة”، فإننا لا نسمّي زمانًا فحسب، بل نُشير إلى تجربة روحية شاملة، تفتح للإنسان بابًا نحو ذاته، ونحو الله، ونحو بداية جديدة تسميته جاءت من المعرفة، ومن التعرّف، ومن التعريف، وكلها تصبّ في جوهر الدين: أن يعرف الإنسان ربه، فيعبده، ويشكره، ويحبّه، ويسلّم له.