وصايا الوداع: الرسائل الأخيرة من النبي ﷺ قبل الرحيل

كتب: مصطفى على
في العام العاشر للهجرة، وعلى صعيد عرفات الطاهر، وقف نبي الرحمة محمد ﷺ يخاطب الأمة في خطبة هي الأهم والأعمق في التاريخ الإسلامي، خطبة وداعٍ لا تُنسى، حملت بين طياتها وصاياه الأخيرة، وملامح رؤيته الشاملة لمستقبل المسلمين، وأُسس الحياة التي أرادها لأتباعه لم تكن الكلمات مجرد توجيهات عابرة، بل كانت إعلانًا ختاميًا لرسالة كونية، وتوجيهات صريحة ترسم معالم الطريق حتى يوم القيامة.
حرمة الدماء والأموال: ميثاق إنساني خالد
افتتح النبي ﷺ خطبته بتأكيد صريح على قدسية النفس والمال في الإسلام، فقال:
“أيُّها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا.”
بهذا التشبيه القوي الذي جمع بين حرمة الزمان (ذي الحجة)، والمكان (مكة)، والحدث (يوم النحر)، أراد النبي أن يرسّخ في نفوس المؤمنين أن الدماء والأموال ليست مجالًا للعبث أو الاستباحة، وأن العدوان على حقوق الناس يُعد تجاوزًا لحدود الله، لا تقلّ خطورته عن انتهاك حرمة الكعبة ذاتها.
لقاء الحوض: نظرة الوداع التي تخترق الزمان
ومع اقتراب لحظات الفراق، نظر النبي ﷺ إلى مستقبله الأبدي فقال:
“أيُّها الناس: مَوعِدُكُم معي ليس الدُنيا، مَوعِدُكُم معي عند الحَوض، والله لكأني أنظُر إليه من مقامي هذا.”
في هذه العبارة المؤثرة، كشف ﷺ عن وعيه الكامل بدنو الأجل، لكنه لم يُودّعهم بانقطاع، بل وعدهم بلقاء آخر في عالم الخلود، عند “الحوض”، وهو موردٌ عذبٌ في الجنة خصّه الله له، حيث ينتظر أمته ليسقيهم بيده، في صورة روحية فريدة تجمع بين الوداع والأمل.
تحذير من فتنة الدنيا: الخوف الحقيقي
وفي لفتة نبوية شديدة العمق، وجّه ﷺ الأنظار إلى مكمن الخطر الحقيقي:
“والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدُنيا.. أن تنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم، فتُهلِكُكُم كما أهلَكَتْهُم.”
الفقر، رغم قسوته، ليس هو ما يخشاه النبي على أمته، بل الدنيا بزخرفها ومناصبها ومنافساتها هي الفتنة الحقيقية هذا التحذير من الانغماس في الماديات يعكس فهمًا نقيًا لطبيعة النفس البشرية، التي قد تضلّ عندما تنغمس في صراعات النفوذ والمال.
الصلاة.. عماد الدين ورسالة الختام
بصوت تردّد صداه في أرجاء التاريخ، كرر النبي ﷺ أعظم ركن من أركان الدين بعد التوحيد:
“أيُّها الناس: الصلاةَ الصلاة، الصلاةَ الصلاة، اللهَ الله في الصلاة.”
لم تكن مجرد دعوة لأداء الفريضة، بل كانت نداءً عاطفيًا يعبّر عن مركزية الصلاة في حفظ الدين والروح فالصلاة هي صلة بين العبد وربه، وإن ضاعت الصلاة، ضاع الدين كله، وهذا ما فهمه النبي وعبّر عنه في ختام دعوته.
وصية بالنساء: ميثاق أخلاقي لمكانتهن
ولأن العدالة لا تكتمل دون إنصاف المرأة، جاءت وصيته بالنساء بصيغة متكررة تؤكد على مدى أهميتها:
“أيُّها الناس: اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء، أوصيكُم بالنساء خيرًا؛ فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.”
في هذا النص النبوي، وضع محمد ﷺ حجر الأساس لحقوق المرأة، مبينًا أنها شريكة حياة لا تُستعبد، بل تُكرم وتُصان، وأن الزواج ليس عقد استغلال، بل أمانة إلهية تحكمها حدود الشريعة والأخلاق. كانت هذه الكلمات إعلانًا مسبقًا لحقوق النساء قبل أن يعرفها الغرب بقرون طويلة.
نداء الوداع: اللحظة التي اختلطت فيها الرسالة بالرحيل
ثم جاءت اللحظة التي فهم فيها البعض أن هذا هو الوداع الحقيقي، فقال ﷺ:
“أيُّها الناس: إنَّ عبداً خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله.”
كانت هذه الجملة بمثابة إعلان خفي عن اقتراب النهاية، فالخيار الذي تحدّث عنه النبي ﷺ هو خياره هو نفسه، حين اختار جوار ربه على البقاء في الدنيا. فهم الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، مغزى الكلمات، فبكى، بينما لم يدركها الكثيرون حتى بعد وفاته ﷺ.
دعوات جامعة: تأييد ونصرة للأمة
وفي لمسة أبوية صادقة، ودّع النبي أمته بالدعاء، قائلاً:
“آواكُم الله، حفظكُم الله، نصركُم الله، ثبَّتكُم الله، أيَّدكُم الله.”
إنه دعاء لا يقتصر على الحاضرين فقط، بل يتجاوزهم إلى كل من سار على دربه، كأنما يدعو لأمته قاطبةً حتى قيام الساعة.
سلام إلى من لم يُولد بعد: وصية خالدة للأجيال
وفي ختام هذه الخطبة التاريخية، قال:
“أيُّها الناس، أقرِئوا مني السلام كلَّ مَن تبعني من اُمَّتي إلى يوم القيامة.”
كانت هذه الرسالة الأخيرة بمثابة توقيع نبوي خالد على خطاب الحب والوداع، فهي موجهة ليس فقط للصحابة، بل لكل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة. إنها جملة كفيلة بأن تهز القلب وتوقظ الإيمان، فهي تذكير دائم بأن النبي ﷺ كان يُحب أمته، حتى من لم يروه.
وصايا خالدة بين السماء والأرض
لم تكن خطبة الوداع مجرد كلمات ألقيت وانتهت، بل كانت وثيقة خالدة تصلح لكل زمان ومكان، تحمل في طياتها مبادئ العدالة، والرحمة، والكرامة، والتحذير من الفتن، والتمسك بالدين، ومراعاة الحقوق، وحسن المعاشرة. إنها صدى رسولي خالد في الزمن، لم يتغير ولم يُبدّل، يعيد التذكير بأن الرحمة المهداة ﷺ لم يترك الأمة بلا توجيه، بل وضع لها دستور النجاة قبل أن يرحل بجسده، ليبقى أثره خالداً ما دامت السماوات والأرض.